فضل و تفسير سورة الفاتحة

التعريف بسورة الفاتحة
سبب التسمية :
تُسَمَّى ‏‏ ‏الفَاتِحَةُ ‏‏ ‏لافْتِتَاحِ ‏الكِتَابِ ‏العَزِيزِ ‏بهَا ‏وَتُسَمَّى ‏‏ ‏أُمُّ ‏الكِتَابِ ‏‏ ‏لأنهَا ‏جَمَعَتْ ‏مَقَاصِدَهُ ‏الأَسَاسِيَّةَ ‏وَتُسَمَّى ‏أَيْضَاً ‏السَّبْعُ ‏المَثَانِي ‏‏، ‏وَالشَّافِيَةُ ‏‏، ‏وَالوَافِيَةُ ‏‏، ‏وَالكَافِيَةُ ‏‏، ‏وَالأَسَاسُ ‏‏، ‏وَالحَمْدُ .
التعريف بالسورة :
1) سورة مكية 
2) من سور المثاني 
3) عدد آياتها سبعة مع البسملة
4) هي السورة الأولى في ترتيب المصحف الشريف 
5) نـَزَلـَتْ بـَعـْدَ سـُورَةِ المـُدَّثـِّرِ 
6) تبدأ السورة بأحد أساليب الثناء " الحمد لله"  لم يذكر لفظ الجلالة إلا مرة واحدة وفي الآية الأولى 
7) الجزء ( 1 ) ، الحزب ( 1 ) الربع ( 1 )
محور مواضيع السورة :
يَدُورُ مِحْوَرُ السُّورَةِ حَوْلَ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ ، وَالعَقِيدَةِ ، وَالعِبَادَةِ ، وَالتَّشْرِيعِ ، وَالاعْتِقَادِ باليَوْمِ الآخِرِ ، وَالإِيمَانِ بِصِفَاتِ الَّلهِ الحُسْنَى ، وَإِفْرَادِهِ بالعِبَادَةِ وَالاسْتِعَانَةِ وَالدُّعَاءِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلاَ بطَلَبِ الهداية إلى الدِّينِ الحَقِّ وَالصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بالتَّثْبِيتِ عَلَى الإِيمَانِ وَنَهْجِ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ ، وَتَجَنُّبِ طَرِيقِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ ، وَالإِخْبَارِ عَنْ قِصَصِ الأُمَمِ السَّابِقِينَ ، وَالاطَّلاَعِ عَلَى مَعَارِجِ السُّعَدَاءِ وَمَنَازِلِ الأَشْقِيَاءِ ، وَالتَّعَبُّدِ بأَمْرِ الَّلهِ سُبْحَانَهُ وَنَهْيِهِ
سبب نزول السورة :
عن أبي ميسرة  أن رسول كان إذا برز سمع مناديا يناديه: يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال : فلما برز سمع النداء يا محمد فقال :لبيك قال : قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال قل :الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين حتى فرغ من فاتحة الكتاب وهذا قول علي بن أبي طالب.
فضل السورة :
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ أَنَّ أُبـَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه  قَرَأَ عَلَي الرسول – صلى الله عليه وسلام -  أُمَّ القُرآنِ الكَرِيمِ فَقَالَ رَسُولُ الَّلهِ - صلى الله عليه وسلم - :  " وَالَّذِي نـَفْسِي بـِيَدِهِ مَا أُنـْزِلَ في التـَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنـْجِيلِ وَلاَ في الزَّبـُورِ وَلاَ في الفُرقـَانِ مِثْلُهَا ، هِيَ السَّبـْعُ المَثَانـِي وَالقـُرآنَ العَظِيمَ الَّذِي أُوتـِيتـُه " فَهَذَا الحَدِيثُ يُشِيرُ إِلى قَوْلِ الَّلهِ تَعَالى في سُورَةِ الحِجْرِ ( وَلَقَدْ آتـَيـْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ المَثَانـِي وَالقُرآنَ العَظِيمَ )


سبب افتتاح القرآن بها

افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن ولذلك كان من أسمائها‏:‏ أم القرآن وأم الكتاب والأساس فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال قال الحسن البصري‏:‏ إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله وعلى التعبد والأمر والنهي وعلى الوعد والوعيد وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور قال الإمام فخر الدين‏:‏ المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة‏:‏ الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر فقوله‏:‏ ‏ "‏الحمدُ للَهِ رَبِ العالمين‏" ‏ يدل على الإلهيات وقوله‏:‏ ‏ "‏مالكِ يومِ الدين‏" ‏ يدل على نفي الجبر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله ‏ "‏إِهدِنا الصِراطَ المُستَقيم‏" ‏ إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله وعلى النبوات فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة التي هي المقصد الأعظم من القرآن وقال البيضاوي‏:‏ هي مشتملة على الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والإطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء وقال الطيبي‏:‏ هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين‏:‏ أحدها‏:‏ علم الأصول ومعاقدة معرفة الله عز وجل وصفاته وإليها الإشارة بقوله‏:‏ ‏ "‏رَبِ العالمين الرحمن الرحيم‏" ‏ ومعرفة المعاد وهو ما إليه بقوله‏:‏ ‏ "‏مالكِ يومِ الدين‏" ‏ وثانيها‏:‏ علم ما يحصل به الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والإلتجاء إلى جناب الفردانية والسلوك لطريقة الاستقامة فيها وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏ "‏أَنعمتَ عَليهِم غَيرِ المعضوبِ عليهم ولا الضالين‏" ‏ قال‏:‏ وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة فإِنها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلاً فإنها واقعة في مطلع التنزيل والبلاغة فيه‏:‏ أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق وقال الغزالي في ‏[‏خواص القرآن‏]‏‏:‏ مقاصد القرآن ستة ثلاثة مهمة وثلاثة تتمة الأولى‏:‏ تعريف المدعو إليه كما أشير إليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الآخرة كما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏ "‏مالكِ يومِ الدين‏" ‏ والأخرى‏:‏ تعريف أحوال المطيعين كما أشار إليه بقوله ‏ "‏الذينَ أَنعمتَ عَليهِم‏" ‏ وتعريف منازل الطريق كما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏ "‏إِياكَ نَعبُدُ وإِياكَ نَستَعين‏"



تفسير السعدي

" بسم الله الرحمن الرحيم "

" بِسْمِ اللَّهِ " أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى, لأن لفظ " اسم " مفرد مضاف, فيعم جميع الأسماء الحسنى. 
" اللَّهِ " هو المألوه المعبود, المستحق لإفراده بالعبادة, لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. 
" الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي, وكتبها للمتقين المتبعين, لأنبيائه ورسله. 
فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة, ومن عداهم, فله نصيب منها. 
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها, الإيمان بأسماء الله وصفاته, وأحكام الصفات. 
فيؤمنون مثلا, بأنه رحمن رحيم, ذو الرحمة التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم. 
فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته, وهكذا في سائر الأسماء. 
يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم به كل شيء, قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.

" الحمد لله رب العالمين "

" الْحَمْدُ لِلَّهِ " هو الثناء على الله بصفات الكمال, وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه. 
" رَبِّ الْعَالَمِينَ " الرب, هو المربي جميع العالمين. 
وهم من سوى الله, بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة, التي لو فقدوها, لم يكن لهم البقاء. 
فما بهم من نعمة, فمنه تعالى. 
وتربيته تعالى لخلقه. 
نوعان: عامة وخاصة. 
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, رزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا. 
والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكملهم, ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه. 
وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة من كل شر. 
ولعل هذا المعنى, هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. 
فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة. 
فدل قوله " رَبِّ الْعَالَمِينَ " على انفراده بالخلق والتدبير, والنعم, وكمال غناه. 
وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.

" مالك يوم الدين "

" مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أن يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات, وأصناف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم, خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور, كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. 
حتى إنه يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار. 
كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه بالذكر, وإلا, فهو المالك ليوم الدين وغيرة من الأيام.

" إياك نعبد وإياك نستعين "

وقوله " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة. 
لأن تقديم المعمول يفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور, ونفيه عما عداه. 
فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك. 
وتقديم العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص, واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده. 
و " العبادة " اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة. 
و " الاستعانة " هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار, مع الثقة به في تحصيل ذلك. 
والقيام بعبادة الله والاستعانة بهما هو الوسيلة للسعادة الأبدية, والنجاة من جميع الشرور. 
فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. 
وإنما تكون العبادة عبادة, إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. 
فبهذين الأمرين تكون عبادة. 
وذكر " الاستعانة " بعد " العبادة " مع دخولها فيها, لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. 
فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.

" اهدنا الصراط المستقيم "

ثم قال تعالى: " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا إلى الصراط المستقيم, وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته, وهو معرفة الحق والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. 
فالهداية إلى الصراط, لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان. 
والهداية في الصراط, تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. 
فهذا الدعاء, من أجمع الأدعية, وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته إلى ذلك.

" صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين "

وهذا الصراط المستقيم هو " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. 
" غَيْرِ " صراط " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. 
و " لَا " صراط " الضَّالِّينَ " الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم. 
فهذه السورة, على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن. 
فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله " رَبِّ الْعَالَمِينَ "
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة, يؤخذ من لفظ " اللَّهِ " ومن قوله " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "
وتوحيد الأسماء والصفات, وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى, التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه, وقد دل على ذلك لفظ " الْحَمْدُ " كما تقدم. 
وتضمنت إثبات النبوة في قوله " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة. 
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناة الجزاء بالعدل. 
وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية. 
بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " لأنه معرفة الحق والعمل به. 
وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك. 
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة, واستعانة في قوله: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "
فالحمد لله رب العالمين.





تفسير القرطبي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال العلماء: (بسم الله الرحمن الرحيم) سم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و (بسم الله الرحمن الرحيم) ما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء: ( إن ) م الله الرحمن الرحيم ( تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.. قال بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب ) م الله الرحمن الرحيم ( فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه ) م الله الرحمن الرحيم ( فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب). وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: ) ذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( [الإسراء:46] قال معناه: إذا قلت ) م الله الرحمن الرحيم (. وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ ) م الله الرحمن الرحيم ( ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: ) يها تسعة عشر ( [المدثر: 30] وهم يقولون في كل أفعالهم: ) م الله الرحمن الرحيم ( فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة ) ( من كلمات سورة ) ا أنزلناه ( [القدر: 1]. ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول). قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.. روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب ) سمك اللهم ( حتى أمر أن يكتب ) م الله ( فكتبها، فلما نزلت: ) ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( [الإسراء:110] كتب ) م الله الرحمن الرحيم ( فلما نزلت: ) ه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( [النمل:30] كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة ) نمل (.. روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال: (الأول) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك. (الثاني) أنها آية من كل سورة، وهو قول عبدالله بن المبارك. (الثالث ) قال الشافعي: هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل.واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبدالحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها). رفع هذا الحديث عبدالحميد بن جعفر، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: (نزلت علي آنفا سورة) فقرأ: ) م الله الرحمن الرحيم: إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر ( [الكوثر: الآية]. وذكر الحديث، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.. الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: ) كفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه (. والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد ) حمد لله رب العالمين ( قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد ) رحمن الرحيم ( قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد ) لك يوم الدين ( قال مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال ) اك نعبد وإياك نستعين ( قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال ) دنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). فقوله سبحانه: (قسمت الصلاة) يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: (هؤلاء لعبدي) أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن ) عمت عليهم ( آية. قال ابن بكير: قال قال مالك: ) عمت عليهم ( آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة) قال: فقرأت ) حمد لله رب العالمين ( حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا ) عمت عليهم ( آية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة ) عمت عليهم (. وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها ) م الله الرحمن الرحيم ( ولم يعدوا ) عمت عليهم (.فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل ) م الله الرحمن الرحيم ( أخرجه أبو داود - أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري: سئل الحسن عن ) م الله الرحمن الرحيم ( قال: في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا: لم تنزل ) م الله الرحمن الرحيم ( في شيء من القرآن إلا في ) ( ) ه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( [النمل: 30]. والفيصل أن القرآن لا يثبن بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة؛ والحمد لله.فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين؛ لا يذكرون ) م الله الرحمن الرحيم ( لا في أول قراءة ولا في آخرها. ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول؛ وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط ) م الله الرحمن الرحيم ( اتباعا للسنة؛ وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً.وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً؛ ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لابد فيها من ) م الله الرحمن الرحيم ( منهم ابن عمر، وابن شهاب؛ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين؛ وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور؛ والحمد لله.. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة؛ منهم: أبو حنيفة والثوري؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير؛ وهو قول الحكم وحماد؛ وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك؛ حكاه أبو عمر بن عبدالبر في (الاستذكار). واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم سمعنا قراءة ) م الله الرحمن الرحيم (. وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روي عن سعيد بن جبير قال: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: ) ا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ( [الإسراء:110]. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.. اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل؛ فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر ) م الله الرحمن الرحيم (. وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر ) م الله الرحمن الرحيم (. وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره ونستحبه.. قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر؛ قال عمر بن أبي ربيعة:لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسملقلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل. إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك.. ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل؛ كالأكل والشرب والنحر؛ والجماع والطهارة وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال؛ قال الله تعالى: ) لوا مما ذكر اسم الله عليه (. [الأنعام:118]. ) ال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ( [هود:41]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله). وقال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً). وقال لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك). وقال: (إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه) وقال: (من لم يذبح فليذبح باسم الله). وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر). هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله). وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.. قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا.فمعنى ) م الله ( أي بالله. ومعنى ) لله ( أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله. وقال بعضهم: معنى قوله ) م الله ( يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته؛ وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.. ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن ) م ( صلة زائدة، واستشهد يقول لبيد:إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذرفذكر ) م ( زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما.وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إن شاء الله تعالى.. اختلف في معنى زيادة ) م (؛ فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك؛ لأن أصل الكلام: بالله. واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدأ بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله؛ قولان: الأول للفراء، والثاني للزجاج. فـ ) م الله ( في موضع رفع خبر الابتداء: وقيل: الخبر محذوف؛ أي ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله؛ فإذا أظهرته كان ) م الله ( في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار وفي التنزيل ) ما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ( [النمل:40] فـ ) ده ( في وضع نصب؛ روي هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل: التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، فـ ) م ( في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.. تكتب ) م الله ( بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال؛ بخلاف قوله: ) رأ باسم ربك ( [العلق:1] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال. واختلفوا فيحذفها مع الرحمن والقاهر؛ فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف. وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع ) م الله ( فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه. واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان؛ فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل: لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء. الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما؛ نحو الكاف في قول الشاعر:ورحنا بكابن الماء يجنب وسطناأي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله.. اسم، وزنه إفع، والذاهب منه الواو؛ لأنه من سموت، وجمعه أسماء، وتصغيره سمي. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذاع، وقفل وأقفال؛ وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم الكسر، واسم بالضم. قال أحمد ين يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذه من سميت أسمي. ويقال: سم وسم، وينشد:والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركاوقال آخر:وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمهمبتركا لكل عظم يلحمهقرضب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. ) ه ( بالضم والكسر جميعا.ومنه قول الآخر:باسم الذي في كل سورة سمهوسكنت السين من ) سم ( اعتلالا غير قياس، وألفه ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة؛ كقول الأحوص:وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الاسما. تقول العرب في النسب إلي الاسم: سموي، وإن شئت اسمي، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء أسام. وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله.اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين؛ فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل: لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل: إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل؛ والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل؛ فلعلوه عليهما سمي اسما؛ فهذه ثلاثة أقوال.وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له؛ فأصل اسم على هذا ) م (. والأول أصح؛ لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها؛ فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي:. فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته؛ وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة؛ وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطأ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك؛ وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم؛ فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق؛ فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل.قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون: الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولا هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في ) بقرة ( و) أعراف ( إن شاء الله تعالى.. قوله: ) له ( هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره؛ ولذلك لم يثن ولم يجمع؛ وهو أحد تأويلي قوله تعالى: ) ل تعلم له سميا ( [مريم:65] أي تسمى باسمه الذي هو ) له (. فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه. وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد. وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال؛ والمعنى واحد.. واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله؛ فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال؛ فأدخلت الألف واللام بدلا عن الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس. وقيل: أصل الكلمة ) ( وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد:لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزونيكذا الرواية: فتخزوني، بالخاء المعجمة ومعناه: تسوسني.وقال الكسائي والفراء: معنى ) م الله ( بسم الإله؛ فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة؛ كما قال عز وجل: ) نا هو الله ربي ( [الكهف:38] ومعناه: لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من ) ه ( إذا تحير؛ والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل واله وامرأة والهة وواله، وماء موله: أرسل في الصحارى. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل ) اه ( ) اه ( وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة؛ وروي عن الخليل. وروي عن الضحاك أنه قال: إنما سمي ) له ( إلها، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه (بنصب اللام) ويألهون أيضا (بكسرها) وهما لغتان. وقيل: إنه مشتق من الارتفاع؛ فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاهاً، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد. وتأله إذا تنسك؛ ومن ذلك قوله تعالى: ) ذرك وإلاهتك ( [الأعراف:127] على هذه القراءة؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: إلا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. و) ا ( في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه ) هاء ( التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار ) ( ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً.القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضاً منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف: دخول حرف النداء عليه؛ كقولك: يا الله، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف؛ ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا الله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.. واختلفوا أيضاً في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمن بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضاً لو كان مشتقاً من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: ) ذ قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ( [الفرقان:60] الآية. ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: ) م الله الرحمن الرحيم ( قال سهيل بن عمرو: أما ) م الله الرحمن الرحيم ( فما ندري ما ) م الله الرحمن الرحيم (! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: ) م يكفرون بالرحمن ( [الرعد:30] وذهب الجمهور من الناس إلى أن ) رحمن ( مشتق من الرحمة مبني على المبالغة؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى ) رحيم ( ويجمع.قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبدالرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: (قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته). وهذا نص من الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.. زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب ) زاهر ( له: أن ) رحمن ( اسم عبراني جاء معه بـ ) رحيم (. وأنشد:لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمراناأو تتركون إلى القسين هجرتكم ومسحكم صلبهم رحمان قرباناقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: ) رحيم ( عربي و) رحمن ( عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه. وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر: وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل: ) م الله الرحمن الرحيم ( قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق وهذا قول حسن. وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن. وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.. واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد؛ كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة. وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع ألا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للمتلىء غضباً. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس:فأما إذا عضت بك الحرب عضة فإنك معطوف عليك رحيمفـ ) رحمن ( خاص الاسم عام الفعل. و) رحيم ( عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو علي الفارسي: ) رحمن ( اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختصر به الله. ) لرحيم ( إنما هو في وجهة المؤمنين؛ كما قال تعالى: ) ان بالمؤمنين رحيما ( [الأحزاب:43]. وقال العرزمي: ) رحمن ( بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة، ) لرحيم ( بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم. وقال ابن المبارك: ) رحمن ( إذا سئل أعطي، و) رحيم ( إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) لم يسأل الله يغضب عليه ( لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة: ) لم يدع الله سبحانه غضب عليه (. وقال: سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضبوقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة.قال الخطابي: وهذا مشكل؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).. أكثر العلماء على أن ) رحمن ( مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: ) ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( [الإسراء:110] فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: ) سأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ( [الزخرف:45] فأخبر أن ) رحمن " هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وأن كان كل كافر كاذباً، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علماً يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم؛ ذكره ابن العربي.. " الرحيم " صفة مطلقة للمخلوقين، ولما في " الرحمن " من العموم قدم في كلامنا على " الرحيم " مع موافقة التنزيل؛ وقيل: إن معنى " الرحيم " أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن، فـ " الرحيم " نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي؛ والله أعلم.. روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله " بسم الله ": إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما " الرحمن " هو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما " الرحيم "، فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.وقد فسره بعضهم على الحروف؛ فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال: (أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة). وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه؛ فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حليم، والنون مفتاح اسمه نور؛ ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء.. واختلف في وصل " الرحيم [ بـ ] الحمد لله [؛ فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ] الرحيم. الحمد [ يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: ] الرحيم الحمد [، تعرب ] الرحيم [ بالخفض وبوصل الألف من ] الحمد [. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ ] الرحيمَ الحمد [ بفتح الميم وصلة الألف؛ كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو عن هذه قراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: ] الَم الله".

الحمد لله رب العالمين

. قوله سبحانه وتعالى: (الحمد لله) وى أبو محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي) وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ) وفي (نوادر الأصول) ن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك) قال أبو عبدالله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى: (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) مريم: 76]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله فهذا في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد والدنيا من الله وكلاهما من الله في الأصل الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: (أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعَضَلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها) ال أهل اللغة: أعضل الأمر: اشتد واستغلق، والمعضّلات (بتشديد الضاد): الشدائد. وعضّلت المرأة والشاة: إذا نشِب ولدها فلم يسهل مخرجه، بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء. والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) وذكر الحديث.. اختلف العلماء أيما أفضل قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له).. أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه وأن مما أنعم الله به الإيمان فدل على أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله: "رب العالمين". والعالمون جملة المخلوقات ومن جملتها الإيمان لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم على ما يأتي بيانه. الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمديفالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد. والحد أعم من الشكر والحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر:إلى الماجد القرم الجواد المحمدوبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر:فشقّ له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمدوالمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حُمَدَة - مثل هُمَزة - يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمَدة النار - بالتحريك - : صوت التهابها.. ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء وليس بمرضي. وحكاه أبو عبدالرحمن السلمي في كتاب "الحقائق" له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم. وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد لأنه باللسان وبالجوارح والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة. وقيل: الحمد أعم لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين" [المؤمنون: 28) قال إبراهيم عليه السلام: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) إبراهيم: 3]. وقال في قصة داود وسليمان: (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) الإسراء: 111]. وقال أهل الجنة: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) فاطر: 34]. (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) يونس: 10]. فهي كلمة كل شاكر.قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى: (مقاما محمودا) الإسراء: 79]. وقال عليه السلام: (أحمد إليكم غسل الإحليل) ي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله (الحمد لله) من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد حاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير (الحمد لله) ال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.. أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم: 32]. وقال عليه السلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) واه المقداد. وسيأتي القول فيه في (النساء) ن شاء الله تعالى.فمعنى (الحمد لله رب العالمين) ي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمد نفسه أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محمل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أحصي ثناء عليك) وأنشدوا:إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نُثني وفوق الذي نثنيوقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط به ثقل المنة.. وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من (الحمد لله) وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج: (الحمد لله) نصب الدال وهذا على إضمار فعل. ويقال: (الحمد لله) الرفع مبتدأ وخبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: (من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: (الحمد لله) ناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه كما قال الشاعر:وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسيرفقال السائلون لمن حفرتم فقال القائلون لهم وزيرالمعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلاك ظاهر الكلام عليه وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبَلة: (الحمد لله) ضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول وليتجانس اللفظ وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو: أجودك وهو منحدر من الجبل بضم الدال والجيم. قال:... اضرب الساقينُ أُمّك هابلبضم النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءة لأهل مكة (مُرُدفين) ضم الراء إتباعا للميم، وعلى ذلك (مُقُتلين) ضم القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم، وأنشد للنعمان بن بشير:ويلِ امِّها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبالأصل: ويلٌ لأمها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: (الحمدِ لله) كسر الدال على اتباع الأول الثاني.. قوله تعالى: (رب العالمين) ي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك. وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال الحارث بن حِلِّزة:وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاءوالرب: السيد: ومن قوله تعالى: (اذكرني عند ربك) يوسف: 42]. وفي الحديث: (أن تلد الأمة ربتها) ي سيدتها وقد بيناه في كتاب (التذكرة) والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: (هل لك من نعمة تربُّها عليه) ي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود ومنه قول الشاعر:أربٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالبويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنىً، أي رباه. والمربوب: المربى.. قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر "آل عمران " وسورة "إبراهيم " وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.واختلف في اشتقاقه فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ومنه قوله تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم " "النساء: 23 " . فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.. متى أدخلت الألف واللام على "رب " اختص الله تعالى به، لأنها للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمُمَلَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده وإنما يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.. قوله تعالى: "العالمين " اختلف أهل التأويل في "العالمين " اختلافا كثيراً، فقال قتادة: العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى: "أتأتون الذكران من العالمين " "الشعراء: 165 " أي من الناس. وقال العجاج:فخِنْدِفٌ هامة هذا العأْلَمِوقال جرير بن الخَطَفي:تَنَصَّفُه البرية وهو سامٍ ويُضحي العالَمون له عيالاوقال ابن عباس: العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: "ليكون للعالمين نذيرا " "الفرقان: 1 " ولم يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الإنس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة.قال الأعشى:ما إن سمعت بمثلهم في العالميناوقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض. وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم والإنس عالم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته.قلت: والقول الأول أصح هذه الأقوال، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى: "قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما " "الشعراء: 23 " ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد لله فقال له: أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر.. يجوز الرفع والنصب في [رب] فالنصب على المدح والرفع على القطع، أي هو رب العالمين.

الرحمـن الرحيم

قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) صف نفسه تعالى بعد (رب العالمين) أنه (الرحمن الرحيم) أنه لما كان في اتصافه بـ (رب العالمين) رهيب قرنه بـ (الرحمن الرحيم) ما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) الحجر: 49، 50]. وقال: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول) غافر: 3]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد] . وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني فلا معنى لإعادته.

مالك يوم الدين

قوله تعالى: (مالك يوم الدين) رأ محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك. قال الشاعر:وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن نديناوقال آخر:فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامهاالخلائق: الطبائع التي جبل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في (مَلِكِ) يقرأ (ملكي) لى لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره..اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: (ملك) عم وأبلغ من (مالك) ذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد. وقيل: (مالك) بلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك. وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ (مالك) ن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول: (رب العالمين) لا فائدة في قراءة من قرأ (مالك) أنها تكرار. قال أبو علي: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: (هو الله الخالق البارئ المصور) الخالق يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) عد قوله: (الذين يؤمنون بالغيب) والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال: (الرحمن الرحيم) ذكر (الرحمن) لذي هو عام وذكر (الرحيم) عده لتخصيص المؤمنين به في قوله: (وكان بالمؤمنين رحيما) وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من (ملك) (ملك) بلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه، الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا. والثالث: أنك تقول: مالك الملك ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من (مالك) لدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن (الملك) بضم الميم - و (ملك) تضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) البقرة: 247] ولهذا قال عليه السلام: (الإمامة في قريش) قريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: (ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا) النمل: 20، 21] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا والله أعلم.. لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض) عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عز وجل) ال سفيان: مثل: شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال: أوضع. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل ل[كان] يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه) قال ابن الحصار: وكذلك (ملك يوم الدين) (مالك الملك) ا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال الله العظيم: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) البقرة: 247]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) إن قال قائل: كيف قال (مالك يوم الدين) يوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قول عز وجل: (مالك يوم الدين) لى تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر.ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قاله أبو القاسم الزجاجي.ووجه ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى: (لمن الملك اليوم) غافر: 16] فأجاب جميع الخلق: (لله الواحد القهار) غافر: 16] فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو. إن وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.. اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) المائدة: 3] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم،وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم كما يقال: ليله ليلاء. قال الراجز:نعم أخو الهيجاء في اليوم اليميوهو مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا: أدْلٍ في جمع دلو.. الدين: الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) النور: 25] أي حسابهم. وقال: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) غافر: 17] و (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) الجاثية: 28] وقال: (أئنا لمدينون) الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون. وقال لبيد:حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوما كما هو دائنآخر:إذا رمونا رميناهم ودناهم مثل ما يقرضوناآخر:وأعلم يقينا أن ملكك زائل وأعلم بأنّ كما تدين تدانوحكى أهل اللغة: دِنته بفعله دينا "بفتح الدال " ودينا "بكسرها " جزيته، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه " أي حاسب. وقيل: القضاء، وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة:لعمرك ما كانت حمولة معبد على جدها حربا لدينِك من مضرومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم:وأيام لنا غر طوال عصينا المَلْك فيها أن ندينافعلى هذا هو لفظ مشترك وهي:. قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر، فهو من الأضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال:كدينك من أم الحويرث قبلهاوقال المثقب [يذكر ناقته]

إياك نعبد وإياك نستعين

قوله تعالى: (إياك نعبد) جع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لأن من أول السورة إلى ههنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه كقوله (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) الإنسان: 21]. ثم قال: (إن هذا كان لكم جزاء) وعكسه: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) يونس: 22] على ما يأتي. و "نعبد " معناه نطيع والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين قال الهروي. ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. "وإياك نستعين " أي نطلب العون والتأييد والتوفيق.قال السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبدالله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرَّ بـ "إياك نعبد وإياك نستعين " فقد برئ من الجبر والقدر.. إن قيل: لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابيا سبَّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر: وعنك أعرض، فقدما الأهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا يجوز نعبدك ونستعينك ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العجاج:إياك أدعو فتقبل مَلَقي واغفر خطاياي وكثّر ورقيويروى: وثَمِّر. وأما قول الشاعر:إليك حتى بَلَغَتْ إياكافشاذ لا يقاس عليه. والورق بكسر الراء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك.. الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من "إياك " في الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: "إياك " بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك وإياة الشمس "بكسر الهمزة " : ضوءها وقد تفتح. وقال:سقته إياة الشمس إلا لِثاتِه أُسِفّ فلم تَكدِم عليه بإثمدفإن أسقطت الهاء مددت. ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر وهي الدارة حولها. وقرأ الفضل الرقاشي: "أياك " "بفتح الهمزة " وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السَّوار الغَنَوي: [هياك] في الموضعين وهي لغة قال:فهِيّاك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره. قوله تعالى: [وإياك نستعين] عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: [نِستعين] بكسر النون وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل. وأصل [نستعين] نستعون قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر استعانة والأصل استعوان، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ولزمت الهاء عوضا.

اهدنــــا الصراط المستقيم

قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) هدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به (الداعي) أن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك وقيل: الأصل فيه الإمالة ومنه قوله تعالى: (إنا هُدنا إليك) الأعراف: 156] أي ملنا، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفضيل بن عياض: (الصراط المستقيم) ريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل (اهدنا الصراط المستقيم) هو دين الله الذي لا يقبل من العبادة غيره. وقال عاصم الأحول عن أبي العالية: (الصراط المستقيم) سول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: (الصراط المستقيم) سول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه قال: صدق ونصح.. أصل الصراط في كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل:شحنَّا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراطوقال جرير:أمير المؤمنين على صراط إذا أعوج الموارد مستقيموقال آخر: فصدّ عن نهج الصراط الواضححكى النقّاش: الصراط الطريق بلغة الروم، فقال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرئ: السراط (بالسين) ن الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرئ بين الزاي والصاد. وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل. وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذرة وكلب وبني القَيْن قال: وهؤلاء يقولون "في أصدق " : أزدق. وقد قالوا: الأزْد والأسْد، ولسق به ولصق به. و "الصراط " نصب على المفعول الثاني لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، قال الله تعالى: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم " . "الصافات: 23 " . وبغير حرف كما في هذه الآية. "المستقيم " صفة لـ "الصراط " وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ومنه قوله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " [الأنعام: 153]

صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) راط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء، كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن (الذين) ي الرفع والنصب والجر وهذيل تقول: اللذون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول الذي، وسيأتي.وفي (عليهم) شر لغات، قرئ بعامتها: (عليهُم) ضم الهاء وإسكان الميم. (وعليهِم) كسر الهاء وإسكان الميم. و (عليهمي) كسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و (عليهمو) كسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و (عليهمو) ضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و (عليهم) ضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: (عليهمي) ضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصري عن العرب. و (عليهُمِ) ضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و (عليهِمُ) كسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و (عليهم) كسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الأنباري.. قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما (صراط من أنعمت عليهم) واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) النساء: 69]. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.. في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعال منه طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الفاتحة: الآية]. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إن هديتنا) آل عمران: 8] الآية.. قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ختلف في (المغضوب عليهم) (الضالين) ن هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود: (وباؤوا بغضب من الله) البقرة: 61 وآل عمران: 112]. وقال: (وغضب الله عليهم) الفتح: 6] وقال في النصارى: (قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) المائدة: 77]. وقيل: (المغضوب عليهم) لمشركون. و (الضالين) لمنافقون. وقيل: (المغضوب عليهم) و من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و (الضالين) ن بركة قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: (المغضوب عليهم) اتباع البدع و (الضالين) ن سنن الهدى.قلت: وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. و (عليهم) ي موضع رفع لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير، يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات وإرادة الله تعالى من صفات ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) هو صفة فعل.. قوله تعالى: "ولا الضالين " الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: "أئذا ضللنا في الأرض " "السجدة: 10 " أي غبنا بالموت وصرنا ترابا، قال:ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلَّل أين سارواوالضُّلَضِلَة: حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه قال: أو غضبة في هضبة ما أمنعا. قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب "غير المغضوب عليهم وغير الضالين " وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من "الذين " أو من الهاء والميم في "عليهم " أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه أو لأن "غير " تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما كما تقول: الحي غير الميت والساكن غير المتحرك والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين أو من الهاء والميم في عليهم كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخليل.. قوله تعالى: "لا " في "ولا الضالين " اختلف فيها فقيل هي زائدة، قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: "ما منعك ألا تسجد " "الأعراف: 12 " . وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: "لا " بمعنى غير وهي قراءة عمر وأبي وقد تقدم.. الأصل في "الضالين " : الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: "ولا الضالين " بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ: "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأَنّ " [الرحمن: 39] 


مقدمة مشكل إعراب القرآن الكريم

[بسم] : الباء حرف جر، [اسم] اسم مجرور بالكسرة. والجار والمجرور متعلقان بخبر محذوف لمبتدأ محذوف، تقديره: ابتدائي كائن بسم الله، وجملة التقدير ابتدائية. [الرحمن الرحيم] : صفتان مجرورتان بالكسرة.
[رب] : بدل مجرور بالكسرة، [العالمين] : مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ وقد أُلْحِقَ به لأنه ليس عَلَمًا ولا صفة، و [عالَم] المفرد يشمل المذكر والمؤنث، والعاقل وغيره، و [عالَمون] مع الجمعية لا يُطلق إلا على المذكر العاقل، فاختلف المفرد عن الجمع.
[مالك] : نعت للجلالة المعرفة، وإضافة [مالك] محضة فيتعرَّف بالإضافة.
[إيَّاك] : ضمير نصب منفصل مبني على السكون، في محل نصب مفعول به مقدم للاختصاص. والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب. جملة [نعبد] مستأنفة.
[الصراط] : مفعول به ثانٍ منصوب بالفتحة. وجملة [اهدنا] استئنافية لا محل لها. وأصل [نستعين] نَسْتَعْوِن من العون، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها، فسكنت الواو بعد النقل، وانكسر ما قبلها فقلبت ياء.
[صراط] : بدل كل من كل من [الصراط] منصوب. وهو بدل معرفة من معرفة. [غير] : بدل من [الذين] مجرور. والجار والمجرور [عليهم] نائب فاعل لاسم المفعول [المغضوب] . [ولا الضالين] : [لا] زائدة لتأكيد النفي، [الضالِّين] اسم معطوف على [المغضوب] مجرور بالياء. آمين: ليست من القرآن، وهي اسم فعل أمر بمعنى استجب.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق